قال الإمام أحمد بن قدامة المقدسي :
قد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة، وكلحم على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع.
والشرع قد أثنى على المتوكلين، وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعى العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب، أو حفظ موجود كالادخار، وإما لدفع ضرر لم ينزل، كدفع الصائل، أو لإزالة ضرر قد نزل، كالتداوي من المرض، فحركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة:
الفن الأول :
في جلب المنافع ، فنقول : الأسباب التي بها تجلب المنافع على ثلاث درجات:
أحدها : سبب مقطوع به كالأسباب التي ارتبطت بها المسببات بتقدير الله تعالى ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، مثاله: أن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع، فلا تمد يدك إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومد اليد إلى الطعام سعى، وكذلك مضغه وابتلاعه، فهذا جنون محض، وليس من التوكل في شيء، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعاً دون أكل الطعام، أو يخلق في الطعام حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله.
وكذلك لو لم تزرع، وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون، وليس التوكل في هذا المقام ترك العمل، بل التوكل فيه بالعلم والحال.
أما العلم : فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام، واليد، والأسباب، وقوة الحركة، وأنه الذي يطعمك ويسقيك.
وأما الحال، فهو أن يكون قلبك واعتمادك على فضل الله تعالى، لا على اليد والطعام، لأنه ربما جفت يدك، وبطلت حركتك، وربما سلط الله عليك من يغلبك على الطعام، فمد اليد إلى الطعام لا ينافي التوكل.
الدرجة الثانية : الأسباب التي ليست متيقنة، لكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها. مثاله: من يفارق الأمصار، ويخرج مسافرا إلى البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً، ولا يستصحب معه شيئاً من الزاد، فهذا كالمجرب على الله تعالى، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سافر تزود واستأجر دليلاً إلى المدينة.
الدرجة الثالثة : ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، فمتى كان قصده صحيحاً وفعله لا يخرج عن الشرع، لم يخرج عن التوكل، لكنه ربما دخل في أهل الحرص إذا طلب فضول العيش. وترك التكسب ليس من التوكل في شئ، إنما هو من فعل البطالين الذين آثروا الراحة، وتعللوا بالتوكل. قال عمر رضي الله عنه: “المتوكل الذي يلقى حبه في الأرض ويتوكل على الله”.
الفن الثاني :
في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه، فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل، خصوصاً إذا كان له عائلة. وفى”الصحيحين” من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، « أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ » [البخاري: 5357]. فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يدخر، فالجواب: أن الفقراء كانوا عنده كالضيف، فما كان ينبغي أن يدخر فيجوعون، بل الجواب: أن حال بلال وأمثاله من أهل الصفة كان مقتضاها عدم الادخار، فإن خالفوا كان التوبيخ على الكذب في دعوى الحال لا على الادخار الحلال.
الفن الثالث :
مباشرة الأسباب الدافعة للضرر . ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في الأرض المسبعة أو مجرى السيل، أو تحت الجدار الخراب، فكل ذلك منهي عنه.
وكذلك لا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال. وقال الله تعالى ﴿ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ﴾ [ النساء : 102 ] .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: « اعقلها وتوكل ».
ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضيا بكل ما يقضى الله عليه ومتى عرض له إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه، فقد بان بعده عن التوكل.
وليعلم أن القدر له كالطبيب، فإن قدم إليه الطعام فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء ينفعني ما قدمه، وإن منعه فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني.
واعلم : أن كل من لا يعتقد في لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الطبيب الحاذق الشفيق، لم يصح توكله، فإن سرق متاعه رضي بالقضاء، وأحلّ الآخذ، شفقة على المسلمين. فقد شكا بعض الناس إلى بعض العلماء أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، فقال: إن لم يكن غمك كيف صار في المسلمين من يفعل هذا أكثر من غمك بمالك، فما نصحت المسلمين.
الفن الرابع :
السعي في إزالة الضرر، كمداواة المريض ونحو ذلك .
اعلم : أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
إلى مقطوع به ، كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا القسم ليس تركه من التوكل في شئ .
القسم الثاني : أن يكون مظنوناً، كالفصد، والحجامة، وشرب المسهل، ونحو ذلك. فهذا لا يناقض التوكل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تداوى وأمر بالتداوى.
وقد تداوى خلق كثير من المسلمين، وامتنع عنه أقوام توكلاً، كما روى عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيباً ؟ فقال: رآني الطبيب. قيل: فما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد.
والذي ننصره أن التداوي أفضل، وتحمل حال أبى بكر رضي الله عنه أنه قد تداوى ثم أمسك بعد انتفاعه بالدواء، أو يكون قد علم قرب أجله بأمارات.
واعلم : أن الأدوية أسباب مسخرة بإذن الله تعالى .
القسم الثالث : أن يكون السبب موهوماً، كالكي، فيخرج عن التوكل، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف المتوكلين بأنه لا يكتوون. وقد حمل بعض العلماء الكي المذكور في قوله : « لاَ يَكْتَوُونَ » على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإنهم كانوا يكتوون ويسترقون في زمن العافية لئلا يمرضوا، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقى الرقية بعد نزول المرض، وقد كوى أسعد بن زرارة رضي الله عنه.
وأما شكوى المريض، فهي مخرجة عن التوكل، وقد كانوا يكرهون أنين المريض، لأنه يترجم عن الشكوى، فكان الفضيل يقول: أشتهي مرضا بلا عواد.
وقال رجل للإمام أحمد : كيف أنت ؟ قال: بخير. قال حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا بخير، فلا تخرجني إلى ما أكره.
فأما إذا وصف المريض للطبيب ما يجده، فإنه لا يضره. وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، ويقول: إنما أصف قدرة الله في، ويتصور أن يصف ذلك لتلميذ يقويه على الضراء ويرى ذلك نعمة، فيصف ذلك كما يصف النعمة شكراً لها، ولا يكون ذلك شكوى.
وقد روينا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ » [البخاري: 5648].
من كتاب: “مختصر منهاج القاصدين ص 317 – 321