والدي العزيز
سأفشي لك سراً لم أسر به لأمي ، وسأفضي لك بأمر لم تعلمه أختي ، ليس لشيء إلا لأنه يخصني أنا وأنت فقط ، وأخشى على نفسي وعقلي وقلبي من كتمانه ، فتحمّل ثقيل همي ، واصبر على ما سألقيه عليك فأنت ولي أمري .
والدي العزيز
يقولون عني أني أشبهك في صفاتك ، وخصوصاً حياؤك ، وهذا ما زاد من مأساتي ، فصفة الحياء فطرة كل أنثى ، ولكني أزيد عليهن لكوني بنت رجل حيي ، فزادني حياؤك حياءً.
لقد مضت سنة على تركي للدراسة بناء على رغبتي ، ولكني لم أخبرك لماذا تركتها ، وأظنك تحسب تركي لها مجاراة لمشاعرك ورغبتك التي لم تخبرني بها ، ولكن هناك سبب أكبر من ذلك ، وهو السر الذي دفنته ولم يطلع عليه أحد ، وها أنا أقدمه بين يديك مكتوباً ، فلساني سينعقد عند الجلوس بين يديك ، وجسدي سيذوب حياءً وأنا أبوح لك به .
والدي العزيز، أنت تعلم حال مدارسنا وكيف اختلط الطلاب بالطالبات ، وكيف انقلب التعليم رأساً على عقب قبل مولدي بسنوات! .
والدي هل تعلم أن مجرد نظر الفتيان إليّ يجعلني أتصبب عرقاً ، فكيف لو شعرت بما أشعر به وهم يتهامسون عند مروري ، وربما تجرأ بعضهم على محادثتي مباشرة ، أما ما أراه من تجرئهم على بعض من تساهلت بالحجاب من زميلاتي ، فيكاد يقتلني في اليوم ألف مرة ومرة .
والدي العزيز ، المدرسة أصبحت سوقاً يعرض فيه اللحم الرخيص ، وصارت موطناً لتفجر الرغبة والشهوة ، ولك أن تسأل بعد ذلك عن حال العملية التعليمية كما يسمونها !
والدي أرى مسلسلاَ يتكرر كل يوم ، وقد كنت أحد حلقاته يوماً ، ففي بداية المسلسل ترى فتاة بحجابها متجنبة الشباب ، ثم تهتم بتزيينه تلبيةَ لنظرات إعجابهم ، وهمسات ثنائهم ، ثم ترخيه شيئاً فشيئاً ، لتقلد معلمتنا ـ سيئة الذكرـ في الظاهر ، ولتلبي طلبات الشباب في الحقيقة ، ولتتجنب تعليقاتهم السخيفة التي تجعلني أطأطئ رأسي حياءً ، وربما ذلاً ومهانة حينما توجه لنا معاشر المحجبات ، تلك الفئة التي صار عددهن يقل كل يوم .
ومن حلقات ذلك المسلسل التعيس ، تساهل بعض الطالبات في الحديث مع الطلاب ، وانتشار قصص الغرام بين فلان وفلانة ، وإشاعة أن سبب المشاجرة بين فلان وفلان ، كان سببها علاقة أحدهما بصويحبة الآخر! ، وفي كل يوم تروج العديد من الإشاعات ، والتي نحسبها ـ مع الأسف ـ مجرد إشاعات ، ولكن ظننا يخيب كل مرة نكذب فيها تلك الأخبار ، فيثبت لنا المسلسل كل يوم أنه مسلسل واقعي ، نرى بعض حقائقه ، ونسمع البعض الآخر بين همس الطلاب وإعلانهم .
والدي هل تعلم أن الفتاة التي تحافظ على علاقتها بريئة ، تعتبر فتاة معتدلة ، تفاخر بعلاقتها ، وتنتقص من لا تجاريها ، ولكن لا تسألني ما حدود تلك البراءة !
والدي العزيز ، لا يمكن لأي رجل أن يتخيل حال الفتاة التي لم ينعم الله عليها بجمال أو حسن قوام ، وهي تسمع الثناء والغزل لبعض من منحهن الله الجمال الرشاقة ، وتسمع همز الشباب ولمزهم لها ، فما ذنبنا ونحن نتعذب كل يوم بغزل من يتغزل وسخرية من يسخر .
والدي العزيز ، لقد كثرت الأمراض النفسية بين الطالبات ، فلوعة الفراق ، وسياط الشوق ، وألم السخرية والنبز ، سحق ما تبقى من نفوس البنات ، ولك أن تسأل بعد ذلك عن التحصيل العلمي والمعرفي !
والدي العزيز ، لن أحدثك عن تتيم الفتيات بالمدرسين ـ والذين أدخلوا إلى المدارس المختلطة لعجز المعلمات عن السيطرة على الطلاب ، فجعلوهم حلاً غبياً لمشكلة صنعوها بأيديهم ـ فقد تجاوز الشق الرقعة ، وزكمت الأنوف تلك الفضائح المخزية .
والدي العزيز ، لن أحدثك عن نظرات المعلمين للطالبات ، ولن أحدثك عن تزينهن لهم ، ولن أحدثك عن بعض ما يقال عن سلسال فلانة وقلادة الأخرى ، فمما يقال : أنها هدية من الأستاذ المربي ، ولكن هل كان لهذه الهدية مقابل أم لا ، يكاد رأسي ينفجر حينما ينفتح باب الخيال لتصور تلك الأحداث التي تغيب عن عيني ، ويحاول ذهني إكمال المشهد !
والدي العزيز ، لقد طلبت منك وأنا في سني المتوسطة الأولى أن أبقى في البيت ، ولكنك لم تلب طلبي إلا في آخر هذه المرحلة ، والدي هذا ما رأيته وعايشته في سنوات قلائل ، وما يقال عن المرحلة الثانوية أدهى وأمر .
والدي العزيز ، لقد ارتحت من ذلك كله بعد بقائي في المنزل ، وما أكثر من بقين فيه هذه الأيام ، ولكن هماً آخر بدأ يؤرقني ، ألا وهو مصير مستقبلي التعليمي ، فقد كنت أسمى ببنت أينشتاين كما تحب أن تناديني مدرسة الرياضيات ، أما معلمة الأدب فتناديني بأديبة الزمان ، وبعد هذا الجهد أبقى حبيسة المنزل ، وتبقى المدرسة لمن لم يهمهم التعلم وطلب المعرفة .
والدي العزيز ، أنا أعلم أن الحال في مدارسنا لم يكن كذلك ، وهذا ما تحدثني به أختاي ، فما الذي جرى وكيف تدهورت الأمور ، أبي لو لم تكن ممن عاصر الإفساد لعذرتك ، ولكن سؤالي الذي يجعلني أكره كل من جعل مسلسل الإفساد يصل إلي :
ما الذي فعلتموه ليقف هذا التدهور ؟ وهل كنتم سذجاً لدرجة أنكم لم تتوقعوا هذه النتائج؟ ، مع أنه مسلسل متكرر في أكثر البلاد العربية من حولنا ! ، أم أنكم تغابيتم عن ذلك جبناً وذلاً !
ألم يكن فيكم رجل رشيد ، وذي رأي سديد ، ليضحي بالنفس والنفيس ؟ هل كانت أعراضكم بهذا الرخص ؟ هل هذا قدرنا عندكم ؟
والدي العزيز، لقد درست تاريخ الثورات العربية ، فعلمت أن من أسبابها غلاء الأسعار ، وصفعة خضار !
هل كانت أعراضكم أرخص من ذلك ، وهل كانت بناتكم أقل من أن تهزوا الدنيا من أجل عفافهن ؟
والدي ، ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم : من قتل دون عرضه فهو شهيد .
والدي ، ألم يطرد النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع من المدينة لأجل عرض مسلمة.
والدي ، ألم يجيش المعتصم الجيوش ، ويخرب عمورية تلبية لنداء عفيفة صفعت .
والدي أخبر من حولك ومن بجوارك واصرخ بأعلى صوتك ، ما يحدث في ردهات المدارس ، وبين جنباتها أعظم من ذلك بكثير .
والدي والله إني لأعلم أن التصدي لمثل هذا المخطط قبل مولدي لا يحتاج إلى دماء وثورات وحروب ، ولكنه كان يحتاج إلى صدع بالحق ، وثبات عليه ، ودعم للشرفاء المحتسبين ، وبيان خطر هذا المشروع لولي الأمر .
أما الآن وبعد أن ألف الناس رخص العرض ، وهانت عليهم نساؤهم ، حتى صار المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، فإزالة ما تبقى من آثار هذا المشروع ، سيكلفكم الكثير ، ولن يغسل هذا الدرن إلا دماء الشهداء .
والدي العزيز ، في ختام رسالتي أعتذر عن عدم إفشائي لذلك السر الذي كتمته ، لظني أنك عرفته ، وما تبقى من حيائي يمنعني من مجرد التفكير بإفشائه.
ابنتك التي لم تولد بعد[/size
منقول للضرورة