سمعتُ كثيرًا عن هذا الفستانِ الذي يساوي سعرُه سعرَ سيارتي التي
تقلني أنا وزوجتي وأبنائي حيث نشاء، وتحمينا من حرارةِ الشمس ومن برودةِ
الشتاء، والتي تُسمعني ردَّ التحيةِ بصوتها المبحوح والمتحشرج كلما أدرتُ
مفتاحَها ذا اللونِ الفضي المكسو بالبلاستيك، والذي أحسُّ بثقلِه يملأ جيبي
كلَّ يوم، فيشعرني بالاطمئنان.
لا أدري ما الذي جعلني أتحدَّث عن
سيارتي في مطلعِ موضوعٍ كهذا! لعلَّها العَلاقة التي نشأت في أذهاننا بين
المرأةِ والسيارة، بجامعِ المصاريف في كل؛ كما يقول البلاغيون!
أتساءل
الآن؛ هل يمكنُ لفتاةٍ عاقلة ناضجة، تبحثُ عن الأسرةِ والاستقرار والسعادة
والأبناء، أن تتخلَّى عن عادةٍ غربية مكلفة تافهة، لمجردِ قراءة مقالٍ
عابر في موقعٍ أو صحيفة من الصحف؟
إنني معجبٌ بالعادات، وأقدِّرُ
مشاعرَ المرأة، وأحترم رأي الوالدة والحماة والعجوز، وكل أهل الزوجة والزوج
المحترمين، لكني كلما رأيتُ هذا الفستانَ معلقًا في واجهةِ المحلات، ولم
أره إلا هنالك، كلما رأيتُه تصورتُ عرقَ الجبين يتصبَّبُ من وجه عريسنا وهو
يتأمَّلُ فواتيرَ الديون، التي تراكمت عليه بسبب هذا التقليد الأعمى، حتى
أصبحت شوكة في حلقِ ترنيمة الحبِّ التي ترنم بها كثيرًا قبل الزواج، ثم
ينظر إليها فيراها منشغلةً في يومها الجديد، وقد ذهبت عنها كلُّ تلك
الألوان الاصطناعية والأعمال اليدوية والتحَف الجبسية التي كانت معلقة على
رأسِها وملطخة على وجهها، وهي تتحرَّكُ في البيتِ ولا تدرك مدى الغمِّ الذي
حدث لحبيبِها بسبب تلك الدِّيون، والتي تسبَّب في جزءٍ غير يسير منها
فستانُها الأبيض الذي طُوي كما طويت الصحف، وأصبح كومةً بيضاء في الدولاب،
ورقمًا أسود في قائمةِ الديون، وقد كان يمكن لقيمتِه أن تجهزَ عُرْسًا
كاملاً، وتجمع بين رأسين مسلمين في الحلال، في مكان آخر من العالم.
أكرِّرُ
ما قلتُه سابقًا، وأكرِّر إعجابي بالعادات، وتقديري لرأي الوالدةِ والحماة
والعجوز، وكل أهل الزوجة والزوج المحترمين، لكن الإسراف في بعضِ الجزئيات
يكون إسرافًا وقحًا فارغًا، لا طائلَ من ورائه البتة، ولا يحقِّقُ غرضًا من
أغراضِ الوليمة أو العرس، ولا يعبر عن الكرمِ ولا عن السخاء، ولا عن
استماتة الزوج في إرضاءِ الزوجة، والذي يعتبر شرطًا من شروطِ التعبير عن
الحبِّ في بعضِ المجتمعات، كل ما تعبر عنه هذه العادة السوداء، هو التقليد
الأعمى، والتنزيل التام لقولِه - عليه الصلاة والسلام -: ((...شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتموه))، ولا أريدُ أن أشبهَ جحر
الديونِ بجحر الضب في ضيقِه وظلمته، مع ما بينهما من الشبه، لكني أريد أن
أقولَ: إنَّ هذه من العاداتِ التي تجمع طامَّتَيْن عظيمتين:
1- التقليد المنهي عنه.
2- والإسراف الذي يسبِّبُ حرمانَ النِّعم وحلول النقَم، والذي يقلبُ حلاوةَ الحياة مرارة، ونعومةَ الزواج خشونة.
لم
ترتدِ أمي ولا جدتي هذا الفستان، ولم ترتده أمُّها ولا جدتها، وعِشنَ في
سعادةٍ غامرة، وحبٍّ حقيقي، تتناهى دون وصفه الكلمات، فما لنا تركنا
عاداتِنا وتقاليدَنا، واستبدلناها بعاداتٍ أخرى وتقاليدَ جديدة، كلها
تَنْحى منحى فلسفةِ تعذيب الزوج.
هذه الفلسفةُ التي روَّج لها عمُّ
عنترة، حين طلب من عنترة أن يأتيَه بمائةٍ من إبل لا توجد إلا في مكانٍ ما
من الجزيرة العربية، فوافق هذا التحدي شيئًا في رأس عنترة، وحرَّكَ نعرةً
من نعراته البطولية؛ كونه يريدُ إثباتَ ذاته في مجتمعٍ كان يرفضه للونه
الأسود، فسنَّ عمُّه بذلك سنةً سيئة، وأصبح كلُّ أب يرى في ابنتِه عبلة،
فما الشيء المميز في عبلة الذي جعلها تستحقُّ كلَّ هذه التضحية، ويقول:
إنَّ ابنتي خير منها.
إنَّ فلسفةَ تعذيب الزوجِ مستشرية في بعض
المجتمعات، وتبدأ أحداثُها اللاإنسانية والتي تتحدَّى حقَّ الإنسانِ
الطبيعي في العيشِ والتكاثر بسلام، تبدأ منذ أن يطرقَ العريسُ باب الخشب
الذي خارجه رحمة وداخله عذاب، لكنَّ الحاجةَ أمُّ التضحية وليس الاختراع،
فلا مجالَ للاختراعِ مع هذا الصهر المحنك، فيضع المسكينُ رأسَه مع الرؤوس،
وينادي بما نادى به أصحابُه وأقرانه، وتبدأ الممارساتُ العنيفة التي أغفلت
كلَّ وصايا الرسول الأعظم وسننه العظيمة - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتي
أغفلت كذلك كلَّ إمكانياتِ هذا الخاطبِ وحدود راتبه الضيقة، فما علينا،
سيتدبر الأمر مع عبد اللطيف جميل، أو مع غيره ممن يبيعون السياراتِ
بالأقساط، هذه الأقساط التي هي عبارةٌ عن ستين جَلْدة، يأخذ منها الزوجُ
جلدةً في كلِّ شهر، كي يكره اليوم الذي جمعه بهذه البطلة المباركة، ويندم
في صمتٍ على كل ذلك الإسراف الذي استمتع به الآخرون ودفع مصاريفَه هو.
إنَّ
الفستانَ الأبيض هو رمزٌ لكلِّ العادات والتقاليد السيئة المكلفة، والتي
التصقت بثقافتنا كقملةٍ في فرو، والتي زادت من معاناتِنا كأمة فقيرة تأكل
من فُتات الغربِ وتتبعه في كلِّ شيء، وليتها كانت عادةً سيئة فحسب، بل هي
عادةٌ سيئة بتكاليف باهظة، وأنا مع أي زوجٍ قرَّرَ المقاومة، ورفض أن يكونَ
كعنترة، وأن يبذرَ مالَه الحلال في أمورٍ كهذه، كي لا يسوِّد مستقبلَ حبه
بالدِّيون من أجلِ بياض هذا الفستان.
قد تتساءلين أيتها العاقلة، لِمَ لا ألبس الفستانَ الأبيض، وماذا ينقصني؟!
أقول:
أنت لا ينبغي لك أن تلبسي الفستانَ الأبيض؛ لأنَّك لستِ مثلهن، فأنت
ينقصُكِ الكثير؛ ينقصك الجهل والسفه والخواء الرُّوحي والتقليد الأعمى
للغرب، ينقصك النظرة السيئة للزوجِ وللحياة الزوجية، ينقصك أنك تملكين
رصيدًا نفسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا يجعلُك في غنًى عن استيرادِ عاداتِ
الغرب الفاشل.
فأنت لا ترضين أن تنفقي ما قيمته ألفا دولار، من أجلِ
فستان يلبس ساعةً من نهار، يدفع زوجُك المسكين أقساطَه في ثلاثة أشهرٍ أو
أكثر من ذلك، إنَّ ذلك المال الذي سينفقه زوجُك يمكن أن يكونَ رحلةً صيفية،
أو هدية في عيدية، أو حبًّا وتقديرًا واحترامًا وإعجابًا ينتابه حينما
يعرف أن خطيبتَه ذات عقل وثقافة وثقة في النَّفسِ وثبات في الشخصية، وأنها
تقدِّرُ حياتَها معه بشيء غير الخِرق والدنانير، ولا تريد أن ترهقَه من
أمره عسرًا، فتكونين بذلك قد سجلتِ أولَ أهدافِك في مرمى الحب، وحققت أول
انتصارٍ على هزيمتنا الاجتماعية، ورسمتِ أكبر ابتسامةٍ على شفتي عريسنا
المسكين الذي يخوضُ حربَ التحرر من العزوبية، في موقفٍ يصدقُ فيه قول
عنترة:
وَلَقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمِّي بِالضُّحَى
إِذْ تَقْلِصُ الشَّفَتَانِ عَنْ وَضَحِ الْفَمِ
حامد الإدريسي
منقول