لنا اطفال بالشام
في كلّ مرّة نبحث عن أحوال إخوتنا في سوريا، نجد سؤالاً من الدّعاة والمفكّرين والكُتّاب: برأيكم ما الذي يمكن عمله نصرة لإخواننا في سوريا؟ وفي محاولة لعصف ذهنيّ تأتي الإجابات الخياليّة والعجيبة ثم أقول:
"إنّ الله على كلّ شيء قدير"، ثم أعود إلى يأسي.. فالله قادر على كلّ شيء، ولكنّ الدّماء والأشلاء تعود لتستحثّ السّؤال الذي أبى أن يهدأ، وظلّ يتلجلج كالمجنون في رأسي: "ماذا عسانا نعمل من أجل إخواننا في سوريا؟"
فأقول كما قال غيري: "بالدّعاء"، ثم أسمع صرَخات الأمّهات..وأقرأ لافتات الأطفال.. وأشاهد نداءات الأبطال.. وأتمزّق أمام سؤالهم: "ما الذي تنتظرونه لأجل نصرتنا؟"، فأبكي من ضعف الحيلة فإذا هم يقفزون:
"أعيرونا مدافعكم لا مدامعكم"!!
فيجفّ الدّمع خجلاً..ثم ينهمر مجدّدًا..لأنّ ما يحدث أقوى من الاحتمال..
أحسستُ يا إخواني ويا أخواتي بأنّني كالهائم في الصّحراء يبحث عن جواب.. وكلّما استجديت أحدًا قال لي: "عليك بالدّعاء"..فسألتُ الله أن يلهمني الجواب.. وواظبتُ على متابعة أخبار أهلنا هناك..
وما أبعد المسافات، ولكن ما أشدّ قرب الهمّ والتصاقه بالفؤاد.. فألهمني الله أن أعود إلى سقيا الطّيور وإطعامها.. وقلتُ في نفسي: لعلّ الله أن يجعل من هذه الطّيور جندًا يحمي إخوتنا.. وكلّما أبديتُ فكرتي واريتُها خجلاً لعيٍّ حرمني من تبريرها.. فقالت لي قريب عزيز:
"أوتذكر أصحاب الفيل؟" فقلت: "نعم..اللهمّ أرسل على الظّالمين طيرًا أبابيل.. ترميهم بحجارة من سجّيل"..فصرتُ أدعو ليل نهار بسُقيا جنود الله "الطّيور"..
ما زال جرحي ينزف.. وعيني تدمع.. والجواب في ذهني لم يكتمل.. فبأيدينا أن نعمل الكثير..ولكم رأينا من وثائق وتقارير عن الشّهداء والجرحى والثّكلى والجوعى.. والخائفين والمعذَّبين.. فأيقنتُ بأنّ الدّعاء المقتضب وحده لا يكفي..
بل علينا أن نجعل دعاءنا مثل دعائهم، وأوجاعنا مثل أوجاعهم.. فرأيت فيهم أهلي وإخوتي وأبنائي ورأيت فيهم ذاتي..
في كلّ مرة يضحك طفلك تذكّر أنّ هناك آلاف الأطفال يبكون هناك.. فادعُ لهم..
إذا جاع طفلك..ثم شبع.. تذكّر أنّ هناك من دفع قيمة رغيف الخبز روح والده، ولم يصل إليه الرّغيف.. وارعَ حقَّ النّعمة..ولا تلقِ بها..
إذا مرضت فاعلم أنّ هناك من لا يجد الدّواء..
لقد جعلتُ من أوجاعهم أوجاعي، فرأيْتُ الشّارع وقد امتلأ بالجنود، وسألتُ نفسي: "إلى أين أفرّ" ولمّا أيقنتُ ضعف حيلتي عن رفع الظّلم عن نفسي رفعت يدي وقلت: "اللهم إنّا مغلوبون فانتصر".
جميعنا مثلهم.. ولو كنّا قادرين لنصرناهم..فلنعلمْ أنّ الظّلم واحد.. وأنّنا كلّنا جرحى وثكلى وقتلى..
في كلّ دعاء نسمعه.. وفي كلّ آية نقرؤها..جعلتهم نصب عيني.. فرأيت في كلّ بشارة بالنّصر بشارة لإخواننا في الشّام ورفعْتُ يدي..موقن بنصر الله، وسألته وحدة الصّف.. وفي كلّ تهديد ووعيد رفعتُ يدي موقن بهلاك المجرمين، وسألته أنْ يرينا قدرته في مَن ظلم..
وسألتُ نفسي: وماذا عن القتلى الذين ماتوا ظلمًا على يد الطّغاة؟! فتذكرتُ الآخرة.. وازددْتُ شوقًا لها كي أرى فرحة المظلومين بنصر الله لهم..
وفرحة الأمّهات بلقاء الأبناء، وقد أبدل الله خوفهم أمنًا..وحزنهم فرحًا.. وجراحهم جنّة عرضها السّماوات والأرض..
اشرب كأس الماء وقلْ: "اللّهم إنّهم ظامئون فاسقهم".
تلحّف بلحافك في الليل وقل: "اللّهم أبدلْ خوفَهم أمنًا"
ولم يعد يهنأ لي بال حتى أعرف أخبارهم.. فرأيت طفلة في عمر الزهور وهي مصابة في ساقها إصابة تحتاج إلى علاج وترميم، فأصابتني في مقتل فرفعت يدي: "يا ربّ إنّ طفلتي في الشام تشكو جرحًا في ساقها.. يا ربّ فاشفِها".
فأدركتُ أنّنا لكي ننصرهم على ضعف حيلتنا فلنتخيل لو كان المصابون أبناءنا فماذا نحن فاعلون؟
بوجع الأمّهات وحرقة قلوبهن ندعو لهم..ونتصدّق عن مرضاهم.. ونبكي على أوجاعهم.. ونفكّر فيهم.. ونراهم في كلّ وقت وكلّ حين لا يبرحون أذهاننا.. وإنْ غابت أخبارهم سألنا عنهم..وإنْ أشغلتنا الدّنيا لم تنسنا التّفكير والدّعاء لهم.
رفعتُ يدي أدعو لطفلتي في الشّام.. ووالله ما أنزلْتُها إلاّ وأنا موقن بأنّ الله سيشفيها.. وسأبذل وُسعي بالدّعاء والصّدقة، وأنا موقن بأنّها ستقف بتلك السّاق في يوم النّصر والتّمكين..وموقن بأنّنا يوم القيامة سنلتقي فتقول لي: "ها هي ساقي التي دعوت الله لأجلها"..
إخوتي..وأخواتي..ليكن لكلّ منّا طفل في الشّام يدعو له ويتصدّق عنه، ويحسن ظنّه بالله ليشفيه ويحميه ويبارك فيه..فهل نعجز عن هذه؟
اللّهم إنّي أسألك برد اليقين..