السلوكيات الصحية في نمط الحياة اليومية هي تصرفات مفيدة للإنسان من كل الجوانب، والعكس صحيح. ذلك، أن نمط الحياة اليومية، أيا كان نوعه، هو منظومة متناغمة ومتجانسة في الإيجابيات والسلبيات. وقد يكون واضحا مثال اللاتي تعودن نمط حياة الكسل في المنزل وخارجه، لجهة كونهن أكثر إسرافا في المال من خلال الإنفاق على عدد من الخدم، وأيضا أكثر عرضة للإصابة بالسمنة والأمراض الناجمة عنها، وكذلك أكثر عرضة للإصابة بالملل النفسي والاكتئاب وغيرهما.
وقد يكون كذلك واضحا مثال الذين تعودوا شراء وتناول أنواع وأصناف من الأطعمة التي لا حاجة لأجسامهم لها، لجهة الإسراف المادي وعرضة للإصابة بأمراض ارتفاع ضغط الدم والسمنة والسكري واضطرابات الكولسترول وغيرها. وكذا الحال مع أولئك الذين يتعاطون المشروبات الكحولية، أو الذين لا يتحركون ولا يتنقلون إلا باستخدام السيارة أو المصاعد الكهربائية.
وإسراف استخدام الطاقة الكهربائية في إضاءة المنزل بالليل، لا يختلف عن كل ما تقدم. وضمن عدد شهر مارس (آذار) المقبل من مجلة «جورنال أوف كلينيكل إندوكرانولوجي آند ميتابوليزم» Journal of Clinical Endocrinology & Metabolism ، المعنية بالدراسات الطبية حول علم الغدد الصماء والعمليات الكيميائية الحيوية بالجسم، سيطرح الباحثون من كلية الطب بجامعة هارفارد دراستهم حول التداعيات الصحية للتعرض للإضاءة المتوهجة بالليل.
ووفق ما سيعرضه الباحثون، فإن التعرض للإضاءة الكهربائية في الفترة ما بين وقت غروب الشمس إلى وقت الذهاب للنوم، يتسبب في خفض شديد في مستوى هرمون ميلاتونين melatonin بالجسم. وبالتالي اختلال العمليات المعتمدة عليه، كاضطرابات الدخول في النوم الطبيعي للإنسان بالليل، واضطرابات عملية تنظيم حرارة الجسم thermoregulation ، واضطرابات انضباط نسبة سكر الدم وضغط الدم، واحتمالات الإصابة بأنواع من السرطان.
وميلاتونين هو هرمون تنتجه الغدة الصنوبرية pineal gland الموجودة في الدماغ. ويوميا، تبدأ هذه الغدة بإفراز هذا الهرمون بشكل متدرج بالتزامن مع انخفاض مستوى الإضاءة المحيطة بالإنسان. ولذا، ترتفع نسبة هذا الهرمون بالجسم تدريجيا، من بعد غروب الشمس، لتصل إلى أعلى مستوى لها نحو الساعة الحادية عشر ليلا، ثم تبدأ بالتناقص التدريجي ليتوقف إنتاجه مع شروق الشمس، وذلك عند إبقاء تعريض غرفة النوم لفرصة دخول ضوء النهار إليها في الصباح. أي هو أشبه ما يكون بقرص دوائي من مادة طبيعية منومة. وعليه يكون الشخص البالغ مهيئا للنوم في المساء بشكل طبيعي، ومهيئا أيضا للاستيقاظ الطبيعي في الصباح. وما نحن بحاجة إليه، هو ألا نتعرض للإضاءة الشديدة في فترة المساء، كي نكون مهيأين لننام بسهولة.
ولكن للأسف، تعود الناس في حياتنا المعاصرة إضاءة المصابيح وغيرها في المساء، سواء في المنزل أو خارجه، بخلاف ما كان البشر عليه من قبل في استخدامهم الإضاءة المسائية الخافتة والهادئة للشمع أو السراج أو القنديل. وإضافة إلى دور هذا الهرمون في تنظيم حلقات تتابع النوم والاستيقاظ، أثبتت الدراسات الطبية أن لهذا الهرمون أيضا دورا في خفض مقدار ضغط الدم وفي تنظيم حرارة الجسم. وما حاول الباحثون معرفته في دراستهم الحديثة هذه، تأثير التعرض لإضاءة الغرف، في أواخر فترة المساء، على نسبة إفراز الجسم لهرمون ميلاتونين. وقالت الدكتورة جوشوا غوولي، الباحثة الرئيسية بالدراسة إن «ملايين الناس يقدمون بشكل يومي على إبقاء الإضاءة في الغرف قبل وقت النوم، وبعضهم حتى خلال فترة النوم.
وتظهر دراستنا أن هذا التعرض للضوء المنزلي ذو تأثير سلبي مثبط لإنتاج هرمون ميلاتونين. وهو ما قد يتسبب للبعض في اضطرابات في النوم وفي قدرة الجسم على تنظيم حرارته الداخلية وفي مقدار ضغط الدم وفي مستوى سكر الدم».
وقارن الباحثون في ما بين التعرض للضوء المنزلي المعتاد والتعرض للأضواء الخافتة خلال فترة ما قبل النوم. وتم قياس نسبة هرمون ميلاتونين في الدم كل ما بين نصف ساعة إلى ساعة. وتبين أن التعرض للأضواء المعتادة يؤخر بدء إنتاج هذا الهرمون لفترة تزيد على ساعة ونصف، وأن إبقاء الإضاءة في غرفة النوم خلال النوم يقلل بنسبة 50% من كمية هذا الهرمون في الدم.
وينوي الباحثون استكمال بحوثهم حول هذا الأمر. وخاصة كما ذكرت الدكتورة غوولي من أن «تأثير انخفاض نسبة هرمون ميلاتونين في ارتفاع خطورة الإصابة بسرطان الثدي لدى النساء، والآلية التي ينظم بها هرمون ميلاتونين نسبة السكر في الدم».
وربما يظن البعض أن الإسراف في استخدام الكهرباء، من خلال إضاءة الأنوار التي لا داعي لها، موضوع صناعي اقتصادي بيئي فقط، ولكنه في الحقيقة موضوع طبي ذو تداعيات صحية. ويمس أنواع من الاضطرابات الصحية، ولعل من أكثرها شيوعا هو الأرق وصعوبات الدخول في النوم. وتظل موضوعات الصحة البيئية بحاجة إلى المزيد من العرض الطبي لإدراك تبعاتها الصحية.