السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
يـابُـنـي : إنــنــي أمــك
الحمد لله فارج الهم ، وكاشف الغم ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وبعد : -
يابني
هذه رسالة مكلومة من أمك المسكينة . .
كتبتها على استحياء بعد تردد وطول انتظار .
أمسكت بالقلم مرات فحجزته الدمعة !
وأوقفت الدمعة مرات ، فجرى أنين القلب .
يابني
بعد هذا العمر الطويلأراك رجلاً سوياً مكتمل
العقل ، متزن العاطفة . . ومن حقي عليك أن تقرأ هذهالورقة
وإن شئت بعدفمزقها كما مزقت أطراف قلبي من قبل !
يابني
منذ خمسةوعشرين عاماً كان يوماً مشرقاً
في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل ! والأمهات يابنييعرفن
معنى هذه الكلمةجيداً ! فهي مزيج من الفرح والسرور ، وبداية معاناة
مع التغيرات النفسية والجسمية . . وبعد هذه البشرىحملتك تسعة أشهر
فيبطني فرحة جذلى ، أقوم بصعوبة ، وأنام بصعوبة ، وآكل بصعوبة،
وأتنفس بصعوبة . لكنذلك كله لم ينتقص من محبتي لك وفرحي بك !
بل نمت محبتك مع الأيام ، وترعرع الشوق إليك !
حملتك يابني وهناًعلى وهن ، وألماً على ألم ..
أفرح بحركتك ، وأسر بزيادة وزنك ، وهي حمل علي ثقيل !
إنها معاناة طويلةأتى بعدها فجر تلك الليلة التي
لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن ، ونالني من الألم والشدة والرهبة
والخوف ما لا يصفه قلم، ولا يتحدث عنه لسان .. اشتد بي الأم حتى
عجزت عن البكاء ،ورأيت بأم عيني الموت مرات عديدة !
حتى خرجت إلى الدنيافامتزجت دموع صراخك
بدموع فرحي ، وأزلت كل آلامي وجراحي ، بل حنوت عليك معشدة
ألمي وقبلتك قبل أنتنال منك قطرة ماء !
يابني
مرت سنوات منعمرك وأنا أحملك في قلبي
وأغسلك بيدي ، جعلت حجري لك فراشاً ، وصدري لك إذا ..
سهرت ليلي لتنام .. وتعبت نهاري لتسعد .. أمنيتي كل يوم : أن أرى
ابتسامتك . وسروري في كل لحظة : أن تطلب شيئاً أصنعهلك ..
هي منتهى سعادتي !ومرت الليالي
والأياموأنا على تلك الحال خادمة لم تقصر ، ومرضعة لم تتوقفوعاملة
لم تسكن ، وداعيةلك بالخير والتوفيق لاتفر ،
أرقبك يوماً بعد يوم حتى اشتد عودك ، واستقام
شبابك ، وبدت عليكمعالم الرجولة ، فإذا بي أجري يمينا وشمالاً
لأبحث لك عن المرأة التي طلبت !
وأتى موعد زواجك ،واقترب زمن زفافك ،فتقطع قلبي ،
وجرحت مدامعي ،فرحة بحياتك الجديدة ، وحزناً على فراقك !
ومرت الساعات ثقيلة ، واللحظات بطيئة ، فإذابك
لست ابني الذي أعرفك . اختفت ابتسامتك ، وغاب صوتك،
وعبس محياك،، لقد أنكرتني وتناسيت حقي ! تمر الأيام أراقب طلعتك،
وأنتظر بلهف سماع صوتك. لكن الهجر طال والأيامتباعدت !
أطلت النظر إلى الباب فلم تأت ! وأرهفت السمع لرنين الهاتف
حتى ظننت بنفسيالوسواس ! هاهي الليالي قد أظلمت ،
والأيام تطاولت ، فلا أراك ولا أسمع صوتك ، وتجاهلت من قامت بك خير قيام !
يابني
لا أطلب إلاأقل القليل ..
اجعلنيفي منزلة أطرف أصدقائك عندك ، وأبعدهم حظوة لديك !
اجعلني يا بني إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيهاولو لدقائق ... ؟
يابني
أتصل بي و لو لدقائق تسمعصوتي ، فأنا كنت من سنين عديدة أتمني سماع صوتك ،
بل كان فرح لي يوم نطقت كلمتك الأولي
يابني
احدودب ظهري،
وارتعشت أطرافي ،وأنهكتني الأمراض ، وزارتني الأسقام ...
لا أقوم إلا بصعوبة ، ولا أجلس إلا بمشقة ولا يزالقلبي ينبض بمحبتك !
لوأكرمك شخص يوماً لأثنيت على حسن صنيعه ،
وجميل إحسانه .. وأمك أحسنت إليك إحساناً لا تراهومعروفاًً
لا تجازيه ... لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات !
فأين الجزاء والوفاء ؟ !
يابني
كلما علمت أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري ..وأتعجب وأنت صنيع يدي ..
أي ذنب جنيته حتى أصبحت عدوة لك لا تطيق رؤيتي ، وتتثاقل زيارتي ؟ !
هل أخطأت يوماً في معاملتك ، أو قصرت لحظة في خدمتك ؟ !
اجعلني من سائر خدمك الذين تعطيهم أجورهم .. وامنحني جزءاً من رحمتك ..
ومن علي ببعض أجري .. وأحسن فإن الله يحب المحسنين !
يا بنيأتمنى رؤيتك !لا أريد سوى ذلك !
دعني أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك .
يا بني
تفطر قلبي،وسالت مدامعي , وأنت حي ترزق !
ولا يزال الناس يتحدثون عن حسن خلقك وجود كرمك !
يا بني
أما آن لقلبكأن يرق لا مرأة ضعيفة أضناها الشوق
، وألجمها الحزن ! جعلت الكمد شعارها ، والغم دثارها !
وأجريت لها دمعاً،وأحزنت قلباً ، وقطعت رحماً ..
يا بني
هاهو بابالجنة دونك فاسلكه ، وأطرق بابه بابتسامة عذبة ،
وصفح جميل ، ولقاء حسن .. لعلي ألقاك هناك برحمةربي كما
في الحديث: (( الوالد أوسط أبواب الجنة ، فإن شئت فأضع ذلك البابأو احفظه ))رواه أحمد .
يا بني
أعرفك منذ شبعودك ، واستقام شبابك ،
تبحث عن الأجر والمثوبة ، لكنك اليوم نسيت حديث النبي صلى الله عليهوسلم ...
(( إن أحبالأعمال إلى الله الصلاة في وقتها ، ثم بر الوالدين ،ثم
الجهاد في سبيل الله ))متفق عليه .
هاك هذا الأجر دون قطع الرقاب وضرب الأعناق،
فأين أنت عن أحبالأعمال ؟ !
يا بني
إنني أعيذكأن تكون ممن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
رغم أنفه ، ثم رغم أنفه ، ثم رغم أنفه ! قيل : منيا رسول الله ؟
قال : (( من أدرك والديه عند الكبر ، أحدهما أو كليهما ثم لميدخل الجنة ))رواه مسلم .
يا بني
لن أرفعالشكوى ، ولن أبث الحزن ، لأنها إن ارتفعت
فوق الغمام ، واعتلت إلى باب السماء أصابك شؤمالعقوق ، ونزلت بك العقوبة ،
وحلت بدارك المصيبة .. لا ، لن أفعل .. لا تزال يا بني فلذة كبدي،
وريحانة فؤادي وبهجةدنياي ! أفق يا بني .. بدأ الشيب يعلو مفرقك ،
وتمر سنوات ثم تصبح أباً شيخاً ، والجزاء من جنسالعمل ..
وستكتب رسائللا بنك بالدموع مثلما كتبتها إليك ..
وعند الله تجتمع الخصوم !
يا بني
اتق الله فيأمك ..
(( والزمها فإن الجنة عند رجليها )) كفكف دمعها ، وواسحزنها ،
وإن شئت بعدذلك فمزق رسالتها !
واعلم :أن من عمل صالحاً فلنفسه ومنأساء فعليها ..